الخميس، 13 أغسطس 2015

1126

عنوان الكتاب: الخنابيب والمرس وأولاد نومر .
المؤلف: مركز اكلو للبحث والتوثيق .

صورة الغلاف
رابط التحميل
غير متوفر

قراءة في كتاب "الخنابيب والمرس وأولاد نومر، المجال والذاكرة"
 بقلم: أحمد السعيدي
عتبات:
استوقفتني صورة (ص. 222) عمود لواء الجهاد الموجود في ضريح سيدي عبد الرحمان الخنبوبي، يبدو متكأ على الحائط ولم ينل منه الزمن شيئا.. بدا لي صنيع الكتاب أشبه برفع اللواء من جديد: إنه لواء بعث التراث وتوثيقه ودراسته.. تثمينا للمجال وصونا للذاكرة، ويلاحظ أحد المتخصصين في التراث أنه:"كلما تكاثر الخطاب حول أهمية إنقاذ التراث وإعادة الاعتبار لكل موروث حضاري في المدن والبوادي –كقصور الواحات مثلا- إلا واتسعت رقعة المسافة الفاصلة بين القول والفعل."[1] وأرى أن هذا الكتاب التحم فيه القول بالفعل، القول في التراث وعنه، والفعل أي نشر دراسات عن هذا التراث وتوثيقه.
 توجد اليوم في سوس حركة[2] هامة تتجلى في التنبه الى قيمة المجال وما أنتجته "الذات" و"الجماعة"، فبعد كتاب "تزنيت الذاكرة الجماعية" الصادر سنة 2009، ها هو كتاب "الخنابيب والمرس وأولاد نومر المجال والذاكرة"، يصدر ليلبّي تلك الرغبة الدفينة في رد الدَّيْن تجاه البلد (تمازيرت). نعم، ما زلنا نقتفي خُطى العلامة النبيه محمد المختار السوسي، ما زلنا أوفياء لتركته العلمية، لم نقتسمها فتذهب شذر مذر، أو تذهب في مهابر [مهالك].
حين زرتُ معرض الكتاب الأخير بالدار البيضاء، تجولت في أروقة النشر الفرنسية، فوجدت ورقة دعائية  كُتب في أعلاها "تحت إشراف اليونسكو أيام تراث الدار البيضاء. وتحتها بالدارجة شعار "أجي تشوف تراث مدينتك"، وتحته بالعربية والفرنسية "أنشطة وجولات مع مرشدين بالمجان". قفزت إلى ذهني هذه المفارقة: 'التراث في عمق الحداثة'. إذا كانت أضخم مدينة في المغرب (تنتمي الى المركز) تحتفي بتراثها بإشراف اليونسكو، فدليل ذلك تهافت كل مواقف الداعين الى القطيعة مع الماضي.. الأهم عندي: هذا الكتاب يقول لنا بالأمازيغية "أَشْكَدْ أَتْسْنْمْ تُّراثْ نْ تْمازِيرْتْنُّنْ" [تعالوا لمعرفة تراث بلدكم]، لكنه بإشراف أبناء البلد ورعايتهم. وأخيرا، هذا التراث بعيد عن المركز، لكنه قريب منه، لأنهما يشكلان لحمة التراث المغربي المتنوع.
محاور الكتاب:
-       الكلمات: افتتح الكتاب بشكر وامتنان وتقديم للأستاذ شفيق أرفاك، تلته سبع كلمات بأقلام مسؤولين وجمعويين وعلماء، أجمعت على الأهمية البالغة لليوم الدراسي وتدعو إلى التفكير في تنظيم مناسبات شبيهة بالمنطقة، واستمرار البحث والتوثيق للذاكرة والتاريخ والتراث.
-       المحور الأول: المجال
تقديم هذا المحور كان موفّقا، لإبراز المعطى الجغرافي والبشري والأثري للمنطقة، وبعبارة أخرى منوغرافيا المنطقة، من خلال عروض الاساتذة: إبراهيم كيني وعبد الرحمن أعمو والطاهر ديعز، الذين استدلوا على قدم المنطقة (تعود لمئات الالاف من السنين، عصور ما قبل التاريخ) وغناها بالموارد المختلفة. وقد أضفت الخرائط والمبيانات والأشكال التوضيحية على المحور طابعا علميا أكاديميا بحيث يكون القارئ على بيّنة من المنطقة المدروسة.
-       المحور الثاني: التاريخ
تم الاقتصار فيه على عرضي أحمد بومزكو والطيب عمري، تناولا تباعا تاريخ المنطقة من خلال بعض المصادر والمظان (الوثائق المحلية والمخزنية..) وضبط أنساب سكان المنطقة التي شهدت تمازجا بين مكونات عدة أمازيغية وعربية وحسانية.
-       المحور الثالث: التراث الثقافي
تضمّن خمسة عروض اهتمت بمقاربة قضايا التمازج الثقافي من خلال الثقافة الشفوية (جامع بنيدير) وأعراف الزواج وخصوصياتها بالمنطقة (محمد بنيدير)، فضلا عن دراسة الأعراف المحلية (تيلواح) في ضوء القانون والقضاء (عموش والعمري)، والوقوف عند تقليد زيارة فرسان بفض القبائل لأحد الأضرحة بالمنطقة (السويسي)، وتجلية مسألة التعليم العتيق ومناهجه في بعض مدارس المنطقة (أبو علي).
-       المحور الرابع: أعلام وشخصيات
ضم أربعة عروض توزعت بين قراءة في تاريخ المقاومة بالمنطقة (الخنبوبي)، والروابط العلمية بين ماسة وقبائل المنطقة (بصير)، وكتابة ترجمة أحد أعلام قبيلة الفيض وجهوده في التدريس والتربية (علي لمين)، ليختم المحور بقراءة في بيعة شرعية لأحد الفقهاء (مباك لمين)، وملخص عرض عن شرف آل الخنابيب (إدوفقير).
ومن مميزات الكتاب، حضور القصائد احتفاء بالمناسبة، وتذييله بمجريات مناقشة العروض وارتسامات الحاضرين.
قضايا لافتة في الكتاب:
قداسة:
تكررت في الكتاب العبارات الآتية:
-       الأرض الطيبة الطاهرة (ص 16).
-       الأرض المباركة (ص 105).
-       الأرض الطيبة (ص 159).
-       المنطقة المباركة (ص 159)..
هذا تعظيم للمنطقة ربما تسلسل إلى الكلمات العروض من الذاكرة الجماعية التي ما زالت تحتفظ للمنطقة بطابع القداسة الدينية والأساطير (ماسة نموذجا). ما دامت القداسة متحققة ماديا (في المساجد والأضرحة والزوايا) ولا ماديا (في الحكايات والأمثال والأشعار..)، فتوثيق تفاصيلها أمر مرغوب، وغالبا ما يكون التراث ثمة بكرا يحتاج إلى من يلملم أطرافه.
تعايش:
في كثير من العروض، يلفي القارئ مسألة التعدد العرقي للمنطقة، يقول أحد الباحثين:"فإن هذه العشائر الآن هي هنا في هذا المجال متعايشة فيما بينها.." (141)، ويعبّر آخر بحماس ".. فهي منطقة تمثل مجالا فريدا من نوعه بالمغرب ككل، حيث تشهد تمازجا ثقافيا ولغويا مغربيا منقطع النظير." (ص 219).
لا شك أن خطاب التعايش بين الأعراق واللغات (الامازيغية، الحسانية، العربية) يخفي نقيضه الذي بدأ يظهر في منابر إعلامية وجمعوية. يردّ الباحثون بالقول إن كل تلك المذاهب متهافتة ولسان حالهم يحذر من تكلفة "اللاتعايش".
يقول شاعر أكلو الفقيه البوجرفاوي معبرا عن ذلك التعايش (ص 32):
بنو نمير وابناء السباع لهــــــــــــم   مجد وعــــــــــــــز وتشريف بترتيــــــــــب
فبين أكلو وماسة الخنابيب هم   كهمزة الوصل في رسم لمكتوب
الذاكرة الجماعية:
أعجبني قول محمد بن فقيه الخنبوبي:"ونحن اليوم سنرصد معكم.. تاريخ هذه العشيرة، عشية آل الخنابيب وأولاد النومر، لنمشي ونحيا في هذه الارض التي تدور من غير ان تدفعها أقدام السائرين، ولكنها تحفظ لهم كل ذكرياتهم فيها من العطر ما لا تعرفه حوانيت العطارين." (ص. 17)
هذا العطر الذي ليس كالعطور، هو مدار الكتاب بالذات. وهو ما سعت مختلف الكلمات والعروض إلى كشفه والبحث عنه وفيه والتعريف به ودراسته.. هو التاريخ والتراث والذاكرة، هو الوجود الحضاري في المنطقة منذ ألاف السنين. لذلك اتفق الباحثون على ضرورة صيانته وتوثيقه، ونادوا بذلك. لكن، لماذا الخنابيب وما اليها تحديدا؟
لعل السبب يكمن في كون المنطقة ملتقى أعراق وثقافات وافدة، لذلك سعت كل ثقافة الى توطين سماتها وخصوصياتها صونا لذاكرتها، "فالذاكرة الجماعية تسعى دوما للمّ خيوط الماضي في نسيج يكون نوعا من الخرائط الذهنية للمحافظة على هوية انفصمت عن أمكنتها. فهي آلية تعويض المكان الشائع والاحتفاظ بالصلة الحية به."[3]
كل تلك الثقافات شكّلت الذاكرة الجماعية للمنطقة، التي –حسب الكلمات والعروض والقصائد- يجب إحياؤها والحفاظ عليها والتعريف بها عند الأجيال الصاعدة، ولم يكن ذلك ليتحقق لولا عمل علمي جماعي هو هذا اليوم الدراسي المنشور بمختلف مشاركاته، وهو أفضل سبيل لصون الذاكرة الجماعية.
خلاصات:
-       هذا الكتاب الحفيل بعروضه ومادته العلمية أساس ومنطلق أي بحث عن المنطقة.
-       اعتنى الكتاب بالتراث في شموليته بما فيه المادي واللامادي.
-       اعتماد المصادر التاريخية غير الارادية في الكتاب من قبيل: عقود النكاح، الأعراف، مشجرات الأنساب،  عقود الحيازة..)
-       حضور لافت للراوية الشفوية والبحث الميداني (ص. 141. 184. 193. 228. 238..)
-       حاول الكتاب الإلمام بمختلف جوانب المنطقة العلمية، وقد توفق في ذلك الى حد كبير، غير أنه أغفل الجانب اللساني (لغات المنطقة) الذي ورد عرَضا في بعض العروض، ولم يختص به عرض بذاته. كما غاب عنه عرض تعريفي بمخطوط "السيف المسلول بقطع لسان من يقول الخنابيب ليسوا من نسل الرسول"، لمحمد بلعربي الخنبوبي، وهو كتاب يستحق التحقيق والنشر.
حاصل القول، الكتاب فرد في بابه، مبنى: طباعة جيدة وغلاف أنيق؛ ومعنى: مجهود بنّاء ورصين، فيه من العلمية والدقة والشمولية الشيء الكثير. فضلا عن تعزيزه بوثائق وصور وخرائط وأشكال توضيحية.. مع فهارس للمصادر والمراجع في آخر كل عرض. وإمعانا في النقد الذاتي، ذيلتّ العروض بمناقشة لها وارتسامات الحاضرين.
وإن كان من فضل –بعد فضل الله تعالى- في إخراج هذا العمل، فهو عائد إلى المركز الفتي مركز أكَلو للبحث والتوثيق، الذي قدم عملا رائدا عطرا، هو كما قال الشاعر:
هُوَ المِسْكُ ما كَرَّرْتَهُ يَتَضَوَّعُ.
[1] - التراث وامتداداته كمجال عام، محمد الناصري، ص. 11، مجلة هسبريس تمودا، عدد XLV، 2010.
[2] - وصفها ذ. أحمد الخنبوبي بـ "ثورة في الكتابة والتوثيق". الخنابيب والمرس وأولاد نومر..: ص 26.
[3] - التراث وامتداداته كمجال عام: 19.

*

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق